هل خطر ببالكم يومًا أن وراء جدران المدينة المنوّرة كنزًا علميًا يضاهي في قيمته أعظم مكتبات العالم الإسلامي؟ إنّ مكتبة عارف حكمت ليست مجرد مكانٍ تحفظ فيه المخطوطات القديمة، بل هي ذاكرة حية تمتد جذورها إلى عام 1270هـ/1854م، حين أُسست لتكون منارة للعلم ووجهة للباحثين من كل حدبٍ وصوب. على مدى قرنين تقريبًا، ظلّت هذه المكتبة منبعًا لا يُقدّر بثمن لعشّاق التراث والمعرفة، يحتضن بين رفوفه مؤلفات نفيسة ومخطوطات نادرة لا توجد إلا فيها.
في السطور القادمة، سنأخذكم في رحلة عبر الزمن لاكتشاف سرّ تفرّد مكتبة عارف حكمت، ونتعرّف على أهم مقتنياتها التي حفظت التراث العلمي الإسلامي من الضياع.
ما هي مكتبة عارف حكمت؟
تُعد مكتبة عارف حكمت من أعرق المكتبات الوقفية في الجزيرة العربية، إذ تأسست سنة 1270هـ/1854م في المدينة المنورة على يد أحمد عارف حكمت، أحد الشخصيات البارزة التي تولّت مناصب قضائية ودينية مرموقة. أوقفها لخدمة العلم ونشره بين طلاب المعرفة، لتصبح مع مرور الزمن مناراتٍ فكريةً تجمع بين التراث والبحث الأكاديمي.
كانت المكتبة منذ نشأتها مركزاً عالمياً لحفظ المخطوطات النادرة، وملجأً للباحثين في علوم الشريعة والتاريخ والأدب والفكر الإسلامي. وقد ضمّت بين رفوفها كنوزاً معرفية لا تقدّر بثمن، جعلت منها مرجعاً رئيساً لكل من يسعى إلى دراسة التراث الإسلامي الأصيل واستكشاف جذور الثقافة العربية.
امتازت المكتبة بتنظيمها الدقيق أسلوبَها المتميّز في تصنيف المخطوطات والكتب، مما جعلها نموذجاً رائداً في إدارة الأوقاف العلمية والخيرية بالمدينة المنورة وحوض الحرمين الشريفين. ولا عجب أن تبقى إلى اليوم رمزاً للعلم الموقوف، وشاهداً على قيمة المعرفة في مسيرة الأمة.
كيف نشأت مكتبة عارف حكمت؟
بدأت فكرة تأسيس مكتبة عارف حكمت في منتصف القرن الثالث عشر الهجري، حين راودت مؤسسها فكرة إنشاء مركز علمي يخدم طلاب العلم والباحثين في المدينة المنورة. كانت رؤيته تقوم على نشر المعرفة في أرجاء العالم الإسلامي، وتيسير الوصول إلى الكتب والمخطوطات الثمينة التي كانت نادرة في ذلك الزمن. ومن هنا وُلدت فكرة مكتبة علمية عامرة تُخلّد اسمه وتبقى مرجعًا لكل طالب علم في المدينة.
من هو أحمد عارف حكمت؟
أحمد عارف حكمت كان شخصية علمية ودينية بارزة في الدولة العثمانية، عُرف بسعة علمه واهتمامه بالمعرفة. تولّى مناصب رفيعة في القدس ومصر والمدينة المنورة، ثم اعتلى منصب مشيخة الإسلام في أواخر حياته، وهو من أعلى المناصب الدينية آنذاك. وبعد تقاعده، كرّس وقته للعبادة والتأليف والعناية بالمكتبة التي أرادها منارة للعلم ومثابة للباحثين.
كيف تطورت المكتبة زمنياً؟
- بدأت مراحل التطور الأولى بضم مجموعة كبيرة من المخطوطات الخاصة بالمؤسس وأسرته، وكانت تمثل نواة المكتبة وأساسها العلمي.
- لاحقًا، توسعت عبر اقتناء مخطوطات نادرة من مختلف الأقاليم الإسلامية، شملت كتبًا بالعربية والتركية والفارسية، ما جعلها مرجعًا متنوعًا يربط بين ثقافات العالم الإسلامي.
- في بداياتها، أدارها أمناء مثل نور أفندي التركي وعبدالقادر حواري، ثم نُقلت إدارتها إلى وزارة الأوقاف، ولاحقًا إلى وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد السعودية التي تابعت الحفاظ عليها.
- خلال عام 1371هـ/1951م، تم هدم مبناها الأصلي ضمن مشروع توسعة المسجد النبوي، فانتقلت مجموعاتها إلى مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، مع الحفاظ على استقلال مجموعاتها.
- مرت المكتبة بظروف صعبة، إذ شهدت نقل وفقدان أجزاء من محتوياتها خلال الحروب، لكنها استعادت معظم مقتنياتها بعد الحرب العالمية الأولى بفضل جهود رسمية حريصة على صون هذا الإرث العلمي.
ما محتويات مكتبة عارف حكمت؟
بدأت المكتبة بمجموع ضخم قُدّر بنحو 20 ألف مخطوطة، لكن مع مرور الزمن وتحديث الإحصاءات، تبيّن أن عددها الفعلي بلغ حوالي 4373 مخطوطة، إلى جانب 7045 مطبوعًا نادرًا.
وفي آخر الإحصاءات المفصلة، تضم المكتبة اليوم 4389 مخطوطة أصلية، و632 مجموعة خطية تحتوي على 3838 رسالة علمية، إضافة إلى 7875 مطبوعًا تتنوع بين الكتب النادرة والطبعات الحديثة.
وتشمل هذه المواد موضوعات غنية في علوم التفسير، الحديث، الفقه، التاريخ، الأدب، الجغرافيا، وغيرها من المجالات الفكرية المتنوعة، مما يجعل مجموعها مرجعًا فريدًا للحركة العلمية عبر العصور.
ما هي أندر المخطوطات؟
تبرز مجموعة من المخطوطات التي تُعد نادرة واستثنائية في قيمتها التاريخية والعلمية، ومنها:
- مخطوطة “الأوائل” للعسكري (395هـ/1004م) التي تتناول أوائل الأمور في اللغة والتاريخ بأسلوب فريد.
- كتاب “الأم” للإمام الشافعي الذي يمثل أحد الأصول الأساسية في المذهب الفقهي الشافعي.
- نسخة من المصحف الشريف مكتوبة بخط أندلسي جميل على رقٍّ من نعام مذهّب، وهي تحفة فنية وروحية في آن واحد.
- تفسير مخطوط على رقّ غزال يعود تاريخه إلى عام 310هـ/922م، يعد من أقدم الشواهد على التأليف التفسيري في تلك الحقبة المبكرة.
- مخطوطة “المحاضرات” للسيوطي بخط المؤلف نفسه، ما يمنحها قيمة نصية ومادية لا تُقدّر بثمن.
بأي لغات توجد المخطوطات؟
تتنوع لغات المخطوطات في مكتبة عارف حكمت لتشمل العربية، التركية، الفارسية، إضافة إلى بعض اللغات الغربية. هذه التعددية اللغوية تعكس مدى تفاعل الحركة العلمية والثقافية بين الشرق والغرب على مر القرون، وتجسد اتساع نطاق التبادل المعرفي الذي احتضنته المدينة المنورة عبر تاريخها الطويل.
ما أهمية مكتبة عارف حكمت للباحثين؟
تُعد المكتبة من أهم المصادر الأولى للفهارس العلمية التي يلجأ إليها الباحثون لتوثيق النسخ ودراسة تطور النصوص. إذ تتيح لهم إمكانية مقارنة الاختلافات بين النسخ، وتحديد عصورها ونُسّاخها، مما يشكّل قاعدة أساسية لأي بحث أكاديمي يعتمد على التحقيق العلمي الدقيق. هذا الدعم يجعلها مرجعاً موثوقاً لكل من يسعى إلى بناء دراسات تعتمد على النص الأصلي دون تحريف أو نقصان.
ماذا تقدم للدراسات الإسلامية؟
تقدّم المكتبة للدارسين في العلوم الإسلامية مخطوطات أصيلة لم تُنشر من قبل، مما يمنحهم فرصة فريدة لتحقيق نصوص جديدة تكشف عن جوانب غير معروفة من التراث الإسلامي. كما تساعد في تتبّع التطورات الفكرية والمدارس العلمية التي نشأت في الحرمين الشريفين، عبر مصادر مباشرة يعود بعضها إلى عصور مبكرة من التاريخ الإسلامي.
مثال على ذلك، أنّ العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه اعتمدت على مخطوطات مكتبة عارف حكمت في تحقيق كتبٍ تراثية، ودراسة تاريخ المدينة المنورة والحياة العلمية فيها.
لماذا تعد مرجعاً أكاديمياً؟
- تنوع مجالاتها العلمية: تضم مجموعات تغطي علوم القرآن، الفقه، اللغة والأدب، والتاريخ والجغرافيا، مما يمنحها عمقاً أكاديمياً واسعاً.
- دقة التصنيف الموضوعي والمكاني: تم تنظيم المخطوطات وفق منهجية علمية تسهّل الوصول السريع إلى المواد المطلوبة.
- اعتماد الباحثين عليها عالمياً: أصبحت محطة رئيسية للباحثين المحليين والدوليين في كل ما يخص دراسات التراث العربي الإسلامي.
- توثيق أصالة المواد: كل مخطوطة محفوظة وفق معايير تحفظ قيمتها التاريخية والعلمية، ما يمنح الوثائق موثوقية عالية في البحوث الأكاديمية.
ما الخدمات المقدمة للباحثين؟
توفر المكتبة مجموعة من الخدمات التي تسهّل تجربة البحث والدراسة. إذ تتيح الاطلاع المباشر على المخطوطات، وتوفر بيئة دراسة هادئة تعزز التركيز. كما تدعم الباحثين المحليين والدوليين في الوصول إلى الموارد المطلوبة، وتقدّم نسخاً مصوّرة عند الحاجة لتيسير عملية التحقيق والمقارنة دون الإضرار بالأصول القيمة.
كيف ساهمت مكتبة عارف حكمت في حفظ التراث الإسلامي؟
كان لـ مكتبة عارف حكمت دور جوهري في حفظ تراث مكة المكرمة والمدينة المنورة عبر تتبع تراجم العلماء المحليين وجمعها في مجاميع خاصة أتاحت للباحثين تتبع سير أعلام الحرمين بدقة. هذا الجهد أسهم في رسم خريطة واضحة للحركة العلمية في المدينتين عبر العصور، ومكّن المهتمين من مقارنة أساليب العلماء ومناهجهم في التأليف والتدريس.
فعلى سبيل المثال، ضمّت المكتبة مجاميع تتناول تراجم كبار العلماء الذين نهضوا بالعلوم الشرعية واللغوية في المدينة المنورة، مما جعلها مرجعًا لا يُستغنى عنه لفهم البنية الفكرية والتعليمية لتلك الحقبة.
كيف واجهت تحديات الفقد والسرقات؟
لم تسلم المكتبة من التحديات الصعبة التي كادت أن تطيح بجزء كبير من تراثها المخطوط. خلال الحرب العالمية الأولى، نُقل عدد من محتوياتها إلى إسطنبول، وفُقدت أجزاء أخرى بسبب السرقة والإهمال. ومع مرور العقود، تناقص عدد المخطوطات بشكل مؤلم من نحو عشرين ألف مخطوطة إلى قرابة خمسة آلاف فقط، ما يعكس حجم الخسارة الكبيرة التي لحقت بالتراث الإسلامي المكنون في هذه المكتبة العريقة.
كيف تم حماية مجموعاتها اليوم؟
تدخلت الجهات الرسمية السعودية لحماية ما تبقى من المجموعات النادرة بمبادرة استراتيجية، حيث جرى حفظها ضمن جناح مستقل في مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تحت إشراف وزارة الشؤون الإسلامية. هذا الإشراف يضمن استمرارية الوصول إلى المخطوطات وتسهيل البحث الأكاديمي، مع الحفاظ على التصنيف العلمي الدقيق الذي اشتهرت به المكتبة منذ تأسيسها.
ما هي أفضل المصادر المتخصصة عن مخطوطات مكتبة عارف حكمت؟
مخطوطات أعلام مكة والمدينة المنورة الموقوفة في مكتبة الشيخ عارف من إصدارات مكتبة دار الزمان للنشر والتوزيع، وهي من أبرز الدور المتخصصة في توفير المصادر الأصيلة التي تخدم الباحثين والدارسين في ميادين التاريخ الإسلامي، تجدها متوفرة في قسم التاريخ والجغرافيا:
مخطوطات أعلام مكة والمدينة المنورة الموقوفة في مكتبة الشيخ عارف حكمت
إذا كنتم من المهتمين بدراسة التراث الإسلامي والمخطوطات النادرة في مكتبة عارف حكمت، فكتاب “مخطوطات أعلام مكة والمدينة المنورة الموقوفة في مكتبة الشيخ عارف حكمت” يعد أحد أهم المراجع التي لا يمكن تجاوزها.
يحتوي هذا الإصدار على مجموعة من الوثائق الأصلية النادرة التي توثق سير وأعمال أعلام مكة المكرمة والمدينة المنورة، ممن خدموا العلم والدين في الحرمين الشريفين. يقدم الكتاب دراسة تحليلية وتوثيقية ثرية، بإشراف المحرّر كرسيّات الدراسات عبد الحميد محمد ظاهر.
ما يميز هذا المرجع أنه لا يكتفي بسرد المعلومات فحسب، بل يوفر فهما معمّقاً للبنية العلمية والدينية في المدينتين المقدستين، ويعرض صورة شاملة للنخبة التي أسهمت في إثراء الحياة الفكرية عبر القرون. كما يتيح للباحثين قاعدة بيانات موثقة يمكن الاعتماد عليها في إعداد الدراسات الأكاديمية والمؤلفات المتخصصة في حضارة الحرمين الشريفين وفهارس المخطوطات الإسلامية.
الأسئلة الشائعة حول مكتبة عارف حكمت
ما أقدم المخطوطات في مكتبة عارف حكمت؟
من بين أقدم المخطوطات نسخة نادرة من تفسير القرآن الكريم كُتبت بخط أندلسي جميل على رق غزال يعود إلى عام 310هـ/922م، وهي من أقدم ما وصلنا من التراث القرآني في المدينة. كما تضم المكتبة أيضًا مخطوطة كتاب الأوائل للعسكري التي تعود إلى القرن الرابع الهجري، لتكون شاهدة على العمق التاريخي للمجموعات التي تحتويها.
كيف يمكن للمهتمين الاطلاع على محتويات المكتبة؟
تتيح المكتبة اليوم لزوارها ولباحثي التراث فرصة الاطلاع على محتوياتها من خلال جناح خاص في مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بالمدينة المنورة. كما تنظم وزارة الشؤون الإسلامية إمكانية الوصول للمخطوطات وفق ضوابط محددة تضمن الحفاظ على مقتنيات المكتبة وتوفير بيئة مناسبة للبحث العلمي المتخصص.
ما دور المكتبة في حماية التراث العلمي للمدينة المنورة؟
أسهمت المكتبة على مدى قرنين في صون التراث العلمي والتاريخي للمدينة المنورة، إذ احتفظت بمئات المخطوطات والوثائق النادرة التي توثق معالم المدينة وحياتها العلمية والدينية. ولم يكن دورها محصورًا في الحفظ فحسب، بل امتد إلى نقل هذا الميراث إلى العلماء والأجيال الجديدة، لتبقى منارة معرفية تشهد على تاريخ المدينة ومكانتها العلمية.
تظل مكتبة عارف حكمت شاهداً حياً على عمق الإرث العلمي في المدينة المنورة، إذ تحتضن بين جدرانها مخطوطات ثمينة توثق مراحل ازدهار الحركة العلمية في الحرمين الشريفين. تمثل المكتبة مرجعاً قيماً للباحثين والمهتمين بفهارس التراث وتحقيق النصوص النادرة، وتبقى مركزاً حيوياً يخدم المجتمعين العلمي المحلي والدولي على حد سواء.
اقرأ أيضًا: