فن تحقيق التراث

من النسخة القديمة إلى النص المحقق فن تحقيق التراث

حقيقة أننا العرب نحمل تراث عريق لا مجال للشك فيها ولكن المشكلة التي تمنعنا من اتخاذ خطوات ثابتة للتقدم هي أننا لا نحقق بهذا التراث ولا نحاول فهمه، فأما نرفضه بالكلية أو نأخذه كما هو دون أن نجعله قابلا للقراءة، فنجد أن الغموض يغلفه، وبطبيعة الحال وسوء الفهم يغلبنا فلا نستفاد من عبر وعِظَات ماضي الأجداد، وهنا تكمن أهمية فن تحقيق التراث، ولهذا نلقي الضوء على مفهوم تحقيق التراث وأهميته في نقل النصوص القديمة للمعاصرين.

من النسخة القديمة إلى النص المحقق فن تحقيق التراث

أن فن تحقيق التراث هو علم يركز على دراسة وتحقيق أي نص من التراث كالمخطوطات القديمة، وذلك في سبيل إظهار صورتها الحقيقة والدقيقة، والتي رغب مؤلفيها في إيصالها، وذلك في ضوء الحفاظ على الأمانة العلمية بلا أي شائبة تحريف أو تصرف.

كيف تعيد المخطوطات الحياة على يد المحققين

المخطوطات من الكنوز التراثية التي تضم في طياتها معارف وأفكار ولمحة من الثقافة في الزمن الماضي، ولكن يوجود كتلة من التحديات التي تشكل عائقًا أمام رعاة فن تحقيق التراث  فغالبا ما تكون مهترئة أو مشوشة بسبب الزمن أو النقل المتكرر.

لكن المحقق له دور هام وحيوي بهذا الشأن، إذ يعمل على إحياء هذه المخطوطات وتحويلها إلى نصوص علمية دقيقة يسهل على الباحثين والقراء الانتفاع بها، ويتم ذلك عبر خطوات عملية ومنهجية تضمن الحفاظ على أصالة النص، وأبرز مفاهيمه ومعانيه لبث الحياة في التراث وإليكم مراحل وخطوات التحقيق العلمي: 

1- جمع النسخ الخطية.

في البدء يبحث المحقق بجمع كل النسخ المتوفرة من النص الراغب بتحقيقه سواء كانت في المراكز البحثية أو مجموعات خاصة أو أي مكان آخر ، ويكمن الاحتياج إلى مصادر منوعة من مناطق مختلفة وأزمنة مختلفة في ملاحظة الاختلافات والإضافات والحذف، ومن ثمة تدوين كافة البيانات كل نسخة من حيث المكان والتاريخ والخط والحجم.

2- مقارنة النسخ واختيار النسخة الأم

يعمل المحقق على مقارنة النصوص المتباينة ويحدد الفروق بينها بحيث يستطيع تحديد النسخة الأصلية والأقرب للأصل إذ تكون بها أقل عدد من الأخطاء ويوجد بها علامات تشير للمؤلف الأصلي ويتمعن المحقق في أسباب الاختلافات ويدرك ما إن كانت أخطاء نسخ، أو إضافات لاحقة، أو حذف عمدي.

3- قراءة النص وتحريره وضبطه

يجتهد المحقق في تصحيح الأخطاء وإزالة الأخطاء الناتجة عن النقل والطباعة ويضبط النص من خلال إضافة الحركات الإعرابية والتشكيل لتسهيل القراءة والفهم ويرتب النص بما يتفق مع قواعد النحو ويسجل كل شيء تم إجراؤه بالمصدر.

4- كتابة الحواشي والتعليقات.

من أهم الخطوات التي يقوم بها المحقق هي شرح المفردات الصعبة وإيضاح الكلمات والعبارات التي قد تكون غير مفهومة بالنسبة للقارئ المعاصر، مع توفير شروح وتفسيرات للنصوص التي تحتاج إلى توضيح.

5- إعداد المقدمة والفهارس الفنية

المقدمة تجمع بين المعلومات الأساسية عن المؤلف والنص والمصادر التي اعتمد عليها المحقق وكذلك فإن الفهرس الخاص بالموضوعات والمصطلحات والآيات والأحاديث مع توثيق كامل للعمل ليكون مرجعا موثوقا للباحثين

مهارات لا غنى عنها للمحقق التراثي

بالطبع فن تحقيق التراث يرتكز على مجموعة من العناصر والمهارات التي لا بد من توافرها من أجل الوصول للغاية العليا وفيما يلي نطرح أهم شروط المحقق الناجح:

  • الخبرة والتمرس في أصول التحقيق وذلك من أجل استيعاب كل المصطلحات المستخدمة من قِبل القدماء وكذلك إدراك أساليب الكتابة والضبط بالشكل  مما يستلزم القيام بدراسة متعمقة وجمع خبرة عملية.
  • الأمانة العملية في تحرير النص وتصحيحه كي يتسق مع الأصل بدون إضافات أو حذف بما يناسب أصول التحقيق المعتمدة. 
  • تقدير قيمة التراث ودوره الحيوي في بناء الحضارة والتعلق بالتراث المخطوط وحبه للتفنن في دراسة أسراره وكل خصائصه كذلك أنواع خطوطه.
  • الصبر والأمانة من أهم الخصال التي لا بد أن توافر في المحقق وذلك لأن فن تحقيق التراث يتطلب مجموعة مهولة من المهارات العملية التي لا يمكن اكتسابها إلا من خلال الممارسة المستمرة لهذا الفن.
  • الإلمام بكل جوانب  قضية المخطوط أو النص مما يساهم في تحقيق عمل أكثر دقة واتقانا.

معارك مع الحبر والورق: صعوبات التحقيق

يواجه فن تحقيق التراث  تحديات حقيقية تعيق العمل وتؤثر سلبا على جودته وفاعليته ومن أبرزها:

 1- الغموض في النصوص وتشابه النسخ

قد يتعرض المعنى الأصلي إلى التشويه وذلك بسبب ظهور أخطاء في النسخ أو تحريفات وضعت المحقق في تحد خلال تصحيحها مع وجود نسخ عديدة قريبة في الشبه لحد كبير مما يجعل تحديد النسخة الأصلية أو قريبة الأصل أم يحتاج دراسة دقيقة للاختلافات الطفيفة.

هذا إلى جانب تعقيد الخطوط بسبب تنوع الخطوط وأساليب الكتابة في مختلف الأزمنة فالقراءة والفهم تحتاج خبرة متخصصة وبعض المصطلحات المهجورة تضيف ظلالا تشوش رؤية وتفسير المحقق للنص.

2- محدودية التمويل والدعم المؤسسي

لا يوجد موارد مالية تغطي تكاليف البحث والتصوير وغيرها من مستلزمات للتحقيق مثل شراء النسخ، وفي الغالب لا تقدم السياسات الوطنية أي استراتيجية واضحة تسهل تنظيم العمل، وفوق هذا لا نرى الدعم الأكاديمي المطلوب فلا يتم توفير وحدات متخصصة أو برامج تدريبية كفاية لتأهيل وإنشاء الكفاءات

3- صعوبة الوصول إلى المخطوطات

من النادر الوصول للنسخ الأصلية للمخطوطات وكثير منها في مكتبات خاصة أو دول بعيدة مما يعسر عملية الوصول لها وغالبا ما تكون موزعة في أماكن مختلفة، وهذا يجبر المحقق على السفر أو الاعتماد على صور للنسخ بجودة رديئة، علاوة على ذلك المخطوطات تعاني من تلف، سقوط صفحات، أو خط سيء يصعب قراءته، وهذا يزيد من صعوبة التحقيق.

الحديث عن تحقيق التراث لا ينتهي وهذا بفضل  روّاد علم التحقيق الذين عملوا بجد حتى لا يسأل أحدنا هل ما زال تحقيق التراث حيًا؟ وذلك بفضل تشديدهم على أهمية تدريب أجيال جديدة على التحقيق.

اقرأ أيضًا: