بيت الحكمة في بغداد

بيت الحكمة في بغداد.. ماهيته ولماذا أُنشئ؟

في زمنٍ كانت فيه بغداد تخطو بخطى واثقة نحو مجدٍ علميّ لا نظير له، وبين أروقة قصر الخلافة وساحات المساجد، وُلِدَ كيانٌ لا يُشبه سواه.. بيت الحكمة، الاسم وحده يبعث على الهيبة، كان روحًا نابضة بالعِلم، وذاكرة تجمع حضارات الأرض، وسفينة يقودها العقل نحو شواطئ التقدم، وقد اجتمع الفيلسوف بالرياضي، والطبيب بالمترجم، والعالم بالفلكي، ليتعاونوا ويعيدوا تشكيل العالم من جديد، وفي السطور التالية سنوضح لك ما تحتاج معرفته عن بيت الحكمة في بغداد. 

بيت الحكمة في بغداد.. ماهيته ولماذا أُنشئ؟

إن بيت الحكمة في بغداد كان مؤسسة علمية ضخمة أُنشئت في العصر العباسي، تحديدًا في القرن الثاني الهجري، وبلغ ذروته في القرن الثالث الهجري. 

كان يضم مكتبة ضخمة تحوي آلاف الكتب، وقاعات للدراسة، وغرفًا للترجمة، ومراصد فلكية، ومجالس للنقاش العلمي والفلسفي.

قد أسّسه الخلفاء العباسيون، وخصوصًا هارون الرشيد، وازدهر في عهد ابنه الخليفة المأمون، وكان الهدف من تأسيسه هو جمع علوم الأمم السابقة وترجمتها إلى العربية، وتطويرها، وتوفير بيئة علمية تسهم في نهضة الفكر الإسلامي، وبناء حضارة قائمة على العلم والمعرفة.

أدرك الخلفاء العباسيون أن الدولة الإسلامية وقد امتد سلطانها من حدود الصين شرقًا للأندلس غربًا، بحاجة إلى عقلٍ جامع ينهض بالأمة علميًا وفكريًا. 

لقد كانت الحضارات القديمة كاليونانية، والفارسية، تملك تراثًا علميًا ضخمًا، لكنه مكتوب بلغاتٍ مختلفة، ومشتت بين البلدان، فكان لا بُد من مركز يُعنَى بجمع هذا التراث وترجمته إلى العربية، ثم دراسته ونقده وتطويره.

ومن هنا نشأت فكرة بيت الحكمة، ليكون الجسر الحضاري الذي ينقل علوم العالم للغة العربية، ويعيد إنتاجها ضمن سياق إسلامي عقلاني، يقدّر المنطق والتجربة.

الترجمة في بيت الحكمة

كانت الترجمة هي النشاط الأبرز في بيت الحكمة في بغداد، فقد استُقدم أشهر المترجمين من مختلف البلدان، وكانوا من المسلمين والمسيحيين والصابئة، يتقنون لغات مثل اليونانية، والفارسية، والسريانية، والهندية، ومن أبرزهم:

  • حنين بن إسحاق: ترجم عشرات الكتب الطبية والفلسفية من اليونانية والسريانية للعربية، وكان يُعرف بدقته وعمق فهمه للنصوص الأصلية.
  • ثابت بن قرة: عالم الرياضيات الشهير الذي ترجم وشرح كتب إقليدس وبطليموس.
  • الفرج بن نصر: الذي نقل علوم الفلك والنجوم عن الفرس والهنود.

لكن الترجمة في بيت الحكمة لم تكن نقلًا حرفيًّا فقط، بل عملية فكرية معقّدة، تقتضي فهم النص، ثم إعادة بنائه باللغة العربية بلاغةً ودقةً، وغالبًا ما كان العلماء يضيفون تعليقاتهم وملاحظاتهم، وأحيانًا يصحّحون أخطاء في النصوص الأصلية.

علوم ازدهرت في بيت الحكمة

تنوّعت العلوم التي ازدهرت داخل بيت الحكمة في بغداد، ولم تكن حكرًا على الفلسفة والطب فقط، بل شملت ميادين كثيرة، نذكر منها:

  • الطب: دُرست فيه كتب أبقراط وجالينوس، وترجمت وشرحها علماء مسلمون، ثم أضافوا عليها تجاربهم واكتشافاتهم، مما أدى إلى نشوء مدرسة طبية متقدّمة في بغداد، وكان من أبرز روّاد هذا المجال الطبيب الرازي، الذي ألّف كتاب “الحاوي”، أحد أعظم الكتب الطبية في العصور الوسطى.
  • الرياضيات: بلغت في بيت الحكمة شأنًا عظيمًا، فقد وضع الخوارزمي أُسس الجبر، واخترع الخوارزميات (التي تُنسب لاسمه)، وكتب كتابًا أثر لاحقًا في أوروبا عبر ترجمته إلى اللاتينية.
  • الفلك: أنشئت مراصد فلكية بالقرب من بيت الحكمة، ورُصِدَ الكواكب والنجوم بدقة لم تعرفها البشرية من قبل، وقد صحّح علماء بيت الحكمة جداول بطليموس، وابتكروا أدوات فلكية متقدمة.
  • الفلسفة والمنطق: تُرجِمَت مؤلفات أفلاطون وأرسطو إلى العربية، وبدء الفلاسفة المسلمون في مناقشة مفاهيم مثل العلة والمعلول، والجوهر والعرض، والمنطق الصوري، وكان هذا تمهيدًا لظهور أسماء لامعة لاحقًا مثل الفارابي وابن سينا.
  • الجغرافيا: نُقلت كتب الإغريق والفرس والهنود في الجغرافيا، وتم تطويرها عبر الرحلات والاستكشافات، وكتب اليعقوبي والإدريسي لاحقًا خرائط دقيقة، كانت لها قيمة كبيرة في العالم القديم.

بيت الحكمة والنهضة الأوروبية

قد يظن البعض أن أثر بيت الحكمة توقف عند حدود الدولة الإسلامية، لكن الحقيقة أن تأثيره امتد إلى أوروبا ذاتها، ففي القرون اللاحقة عندما ترجم الأوروبيون مؤلفات العلماء المسلمين إلى اللاتينية، استندوا للأعمال التي وُلدت أو تطوّرت في بيت الحكمة. 

لقد كان بيت الحكمة هو الجسر الذي انتقلت عبره علوم الإغريق والهنود إلى الغرب، بعد أن أعاد المسلمون بناءها وتطويرها.

بمعنى آخر، فإن النهضة الأوروبية العلمية لم تكن لتحدث لولا الجهود العلمية الكبرى التي بُذلت في بيت الحكمة، وتلك الحلقات الطويلة من الترجمة والشرح والإبداع التي قام بها علماء المسلمين في بغداد.

سقوط بيت الحكمة في بغداد

رغم هذا المجد العظيم لم يدم بيت الحكمة طويلًا، ففي عام 1258م اجتاح المغول بغداد بقيادة هولاكو، وقتلوا العلماء وأحرقوا الكتب.

وألقوا آلاف المخطوطات في نهر دجلة حتى قيل إن لون الماء اسودّ من كثرة الحبر، وبذلك انتهى عصر بيت الحكمة، لا بفشل علمي بل بفاجعة إنسانية وحضارية.

لكن رغم هذا السقوط المادي، ظلّ تأثير بيت الحكمة باقيًا في الكتب التي انتشرت في الآفاق، وفي النهج العلمي الذي زرعه في عقول العلماء شرقًا وغربًا.

إن بيت الحكمة دليل حيّ على أن الأمم التي تكرّم العقل، وتحتضن العلم، وتفتح أبوابها للحوار، وقد نجح بيت الحكمة لأنّه جمع العقول، وألغى التعصب، ورفع شأن البحث العلمي، وفي عالمنا المعاصر استلهام نموذج بيت الحكمة ليس ترفًا ثقافيًّا فيه، بل ضرورة حضارية لإعادة الاعتبار للعلم وبناء مؤسسات معرفية جديدة بروح الانفتاح والجدية والإبداع.

اقرأ أيضًا: