حياكم الله
بحث
ِArabic
كافة التصنيفات
    القائمة Close
    العودة للكل

    تعرف على أدب الفقهاء

    أدب الفقهاء

    في عالم يتسارع فيه التغيير وتتعقد فيه العلاقات الإنسانية، يبرز دور الفقهاء والعلماء كمنارات تنير دروب المعرفة والإيمان. يأتي كتاب "أدب الفقهاء" للكاتب عبد الله كنون ليقدم لنا رؤى عميقة حول الأخلاق والآداب التي ينبغي أن يتحلى بها هؤلاء الفقهاء في المجتمع. يتناول كتاب "أدب الفقهاء" مفهوم الأدب في سياق الفقه، ويستعرض القيم الإنسانية التي يجب أن تميز تعاملاتهم اليومية، مؤكدًا على أهمية النية الصادقة والإخلاص في العمل.

    من خلال هذا العمل، يستكشف كنون تأثير الفقهاء على الأفراد والمجتمعات، مُبرزًا دورهم الحيوي في توجيه السلوكيات الإنسانية وبناء مجتمع قائم على المبادئ النبيلة. إن الكتاب ليس مجرد دراسة نظرية، بل هو دعوة للتأمل والتفكير في كيفية تحقيق التوازن بين المعرفة والخلق، وكيف يمكن أن يسهم الفقهاء في تشكيل عالم أفضل من خلال التمسك بالقيم الأخلاقية.

    أدب الفقهاء

    ندعو القارئ إلى الغوص في صفحات كتاب "أدب الفقهاء"، لاستكشاف الحكمة التي يجسدها، والتأمل في الدروس القيمة التي يقدمها لكل من يسعى إلى فهم أعمق لدور الفقهاء في الحياة المعاصرة. فليكن الكتاب مرجعًا لكل من يرغب في تعزيز القيم الإنسانية والأخلاقية في كل جوانب الحياة.

    مقدمة الكتاب

    روى العلامة ابن خلدون عن أبي القاسم بن رضوان، كاتب العلامة السلطانية في الدولة المرينية، أنه ذات يوم ناقش صديقه أبا العباس أحمد بن شعيب (الجزنائي)، الذي كان معروفًا بمهارته في اللغة في عصره. أثناء الحديث، أنشد ابن رضوان مطلع قصيدة للشاعر أبي الفضل ابن النحوي دون أن ينسبها إليه، واختار الأبيات التي تقول:

    "لم أدر حين وقفت بالأطلال ما الفرق بين جديدها والبالي"

    فرد الجزنائي بسرعة قائلاً: "هذا شعر فقيه." فسأله ابن رضوان: "ومن أين عرفت ذلك؟" فأجاب: "من قوله 'ما الفرق؟'، إذ إنها من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كلام العرب."

    وهذا صحيح، حيث أن لكلام العرب أساليب محددة لا يمكن تجاوزها إلا من يمارس اللغة بشكل عميق ويمتلك مخزونًا كبيرًا من النظم والنثر. فعندما يرغب الشاعر في التعبير، ينفق من مخزونه الواسع، ولا يقع في ضائقة تدفعه إلى القصور عن ما يريد قوله. فالكلام هو في جوهره تعبير عن الأفكار والمشاعر.

    يعتبر الجزنائي مثالاً جيدًا على ما سبق، فقد كان يحفظ حوالي عشرين ألف بيت من شعر المحدثين فقط، فما بالك بما كان يحفظه من شعر الأقدمين؟ لذلك، فقد أنجب شاعرًا عظيمًا وناقدًا بارزًا، حيث قال عنه ابن خلدون إنه كان له شعر يضاهي فحول الشعراء من السابقين واللاحقين، وكان له الريادة في نقد الشعر.

    لكن الحفظ وحده لا يكفي، إذ يتطلب الأمر وجود ملكة، وهي الاستعداد النفسي الذي ينميه الحفظ ويصقله الممارسة. الملكة تختلف عن الذوق الذي يتحدث عنه علماء البلاغة، حيث إن الحفظ والممارسة لكلام العرب في النظم والنثر يسهم في تكوين الملكة. الملكة تمثل القدرة على الإنتاج، وتحتاج إلى الذوق لضمان أن يكون الإنتاج رفيع المستوى. فالذوق هو معيار النقد، وصاحبه يستطيع تمييز الجيد من الرديء في الكلام، لكنه لا يصبح أديبًا إلا إذا كان يمتلك الملكة.

    في التاريخ العربي، كان هناك نقاد يمتلكون قدرة على تقييم الشعر والنثر، لكنهم لم يستطيعوا إنتاج أي عمل أدبي. على سبيل المثال، الأصمعي الذي سُئل: "لم لا تقول الشعر مع معرفتك الجيدة له؟" فأجاب: "ما أريده لا يأتي إلي، وما يأتي إلي لا أريده."

    وفي زمننا الحالي، يمكننا أن نذكر الدكتور طه حسين، الذي رغم براعته في نقد الشعر، لم يُنتج شيئًا في هذا المجال.

    وتابع عبدالله كنون مقدمته وقال.وهناك من يجمع بين الملكة والذوق، فيصبح أديبًا وناقدًا، ككاتبنا عباس محمود العقاد من المعاصرين وصديقنا الجزنائي من المتقدمين. والغريب في الأمر أن الجزنائي كان صاحب ثقافة علمية واسعة إلى جانب ثقافته الأدبية المتينة. فقد كان بارعًا في العلوم العقلية، مثل الفلسفة والتعاليم والطب، ولم يمنعه ذلك من أن يكون شاعرًا فحلًا. ولم يجعل أدبه أدب فقهاء أو علماء، مما يدل على أنه لا توجد مناقضة بين الفقه والأدب والعلم والشعر. إن القضية هي قدرة الشخص على التمكن من المادة الأدبية، نظمًا ونثرًا، إلى جانب وجود ملكة قوية وذوق مهذب، حتى لو كان صاحب هذا الأدب إمامًا في الفقه ورأسًا في العلم.

    ويرحم الله الشافعي إذ يقول:

    "ولولا الشعر بالعلماء يزري  

    لكنت اليوم أشعر من لبيد."

    ونحن نرى اليوم علماء مختصين برعوا في الأدب والشعر، حتى غطى أدبهم على علمهم. من هؤلاء الدكتور أحمد زكي أبو شادي والمهندس علي محمود طه، وكلاهما من أصحاب الدواوين المتعددة، فلتنظروا في أدبهم.

    ومن شعر الجزنائي الذي يعبر عن نفسه العالية، هذه الأبيات التي يقولها في الشوق إلى الحبيب:

    يا موحشي والبعد دون لقائه  

    أدعوك عن شحط وإن لم تسمع  

    يدنيك مني الشوق حتى إنني  

    لأراك رأي العين لولا أدمعي  

    وأحن شوقًا للنسيم إذا سرى  

    بحديثكم وأصبخ كالمستطلع  

    كان اللقاء فكان حظي ناظري  

    وسطا الفراق فصار حظي مسمعي  

    فابعث خيالك تهده نار الحشا  

    إن كان يجهل من مقامي موضعي  

    ونعود إلى كلمة صاحبنا وحكمه على بيت ابن النحوي بأنه شعر فقيه، استنادًا إلى قوله "ما الفرق" لأنها من عبارات الفقهاء. فهل مجرد استعمال عبارة من عبارات الفقهاء أو غيرهم من العلماء يخرج الشعر عن كونه شعر أديب؟

    فإذن، بماذا نحكم على قول شاعر العرب الأكبر، أبو الطيب المتنبي:

    تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم  

    إلا على شجب والخلف في الشجب  

    فقيل تخلص نفس المرء سالمة  

    وقيل تشرك جسم المرء في العطب  

    ومن تفكر في الدنيا ومهجته  

    أقامه الفكر بين العجز والتعب  

    فقد استعمل المتنبي عبارات مثل "تخالف الناس" و"الخلف" و"حتى لا اتفاق لهم"، وكلمة "فقيل" التي تلتها "وقيل" على سبيل التفصيل، وكل ذلك من عبارات الفقهاء والنحويين وغيرهم من العلماء. وهذا كثير لا يخفى على الجزنائي ولا على من دونه من حيث المعرفة والتحصيل. بل إن علماء البديع يذكرون نوعًا من المحسنات يسمى "المذهب الكلامي"، وهو ما يحتج فيه على المطلوب بحجة تشبه حجج علماء الكلام. وهناك أيضًا الاقتباس، وهو الأخذ من مصطلحات العلماء على اختلاف اختصاصاتهم، وقد وقع في كلام المتنبي نفسه، كقوله مقتبسًا من علم الفقه:

    بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها  

    وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه  

    قفي تغرمي الأولى من اللحظ مهجتي  

    بثانية (والمتلف الشيء غارمه)  

    في ختام هذا الكتاب، نجد أن "أدب الفقهاء" ليس مجرد دراسة أدبية أو علمية، بل هو رحلة تتجلى فيها روابط معقدة بين الفقه والأدب، بين العلم والشعر. لقد استعرضنا في صفحات هذا العمل كيف يمكن للفقهاء أن يكونوا شعراء وأدباء، وكيف يمكن للأدب أن يتجاوز حدود المعرفة العلمية ليصبح وسيلة تعبير تعكس مشاعر الإنسان وتجربته.

    لقد أثبتنا أن الملكة الأدبية ليست محصورة في فئة معينة، بل يمكن أن تتجلى في شخصيات متعددة تجمع بين الفقه والعلم والأدب. ومن خلال أمثلة من التاريخ العربي والمعاصرين، أصبحنا نرى كيف يمكن للمعرفة أن تغذي الإبداع، وكيف يمكن للأدباء أن يستلهموا من العلوم ليغنوا تجربتهم الأدبية.

    إن الكتابة عن "أدب الفقهاء" تبرز أهمية التفاعل بين مختلف مجالات المعرفة، وتدعو إلى تعزيز هذا التفاعل في عالمنا المعاصر. فلنستفد من تجارب الأجداد ونستمر في تعزيز القيم الأدبية والفقهية، ونجعل من الأدب وسيلة لنشر الوعي والمعرفة.

    ختامًا، نسأل الله أن تكون هذه الصفحات قد أسهمت في إثراء الفكر العربي والإسلامي، وأن تكون دعوة للمزيد من البحث والتأمل في العلاقة بين الأدب والفقه، لنستمر في بناء مجتمع يتسم بالمعرفة والجمال.

    والله ولي التوفيق.

    التعليقات
    اترك تعليقاَ اغلاق