لمحة من الطبري إلى الذهبي: مصادرنا الأولى كما يراها القارئ المعاصر

لمحة من الطبري إلى الذهبي: مصادرنا الأولى كما يراها القارئ المعاصر

إنّ عظمة الأمة لا تُقاس بوفرة كتُبِهَا، بل بقدرتها على فهم تلك الكتب، وإعادة اكتشاف معانيها في ضوء اللحظة الراهنة، ومن هنا فالعودة لأعلام كالطبري وابن حزم والذهبي، ليست ارتدادًا إلى الوراء، بل عودة للجذور لبناء الفروع، وتأصيل للهوية المعرفية في زمنٍ تتنازع فيه القراءات السطحية، والتأويلات العجلى، ولهذا قراءة أعمالهم اليوم ينبغي أن تتم بحسّ ناقد، وعقل متوثب، يعي الفرق بين الرواية والنية، بين النقل والمقصد، وفي السطور التالية سنتطرق للمحة من الطبري إلى الذهبي: مصادرنا الأولى كما يراها القارئ المعاصر.

لمحة من الطبري إلى الذهبي: مصادرنا الأولى كما يراها القارئ المعاصر

إنَّ الرجوع لأصحاب المصادر الكبار، بدءً من الإمام محمد بن جرير الطبري، مرورًا بالإمام ابن حزم الإشبيلي، ووصولًا للحافظ شمس الدين الذهبي، يُعدُّ بمثابة رحلة معرفية وثقافية. 

ففي طيات تأسيسنا المعرفي، تتجسّد الحقيقة التاريخية والفقهية والعقائدية، وتتجلّى أمامنا صورٌ نابضة بعنفوان الواقع وأصالة الرؤية. 

ولذلك لا بد أن يعي القارئ المعاصر دوره المحوري كناقدٍ واعٍ؛ يلتقط من التراث ما يهديه إلى فهم السياقات، ويمكّنه من استخلاص الدروس، وتفسير الوقائع، وتمحيص الحقائق المعاصرة، وفيما يلي نوضح ما تحتاج معرفته عمن الطبري إلى الذهبي: 

أولًا: الطبري

يُمثل الإمام الطبري منبعًا أساسيًا لفهم المسلمين لأحداثِهِم الأولى؛ حين جمَع سيرة الأنبياء، وقرأ الوقائع السياسية والاجتماعية في جزالة لغة، وأصاب في عرض الحالات. 

تفسيره ومؤلفُ تاريخ الأمم والملوك يمثلان رصيدًا لا يُضاهى في تحليل النزاعات السياسية، وخبايا اللحظات الفارقة، وأوتي قدرة نادرة على استقراء الكلمات، وربط المشاهد ببعضها.

من ثمَّ إعادة صياغتها بأسلوب سردي يجمع بين الإيضاح والدقّة، بين الحياد التاريخي والانتصار للتوثيق، وللقارئ المعاصر مصلحة لا تُضاهى من دراسة الطبري.

فهو لا يُهيئ لقراءة الماضي فحسب، بل يُبيّن رموز القوة وسياقات الجاه والجهل، ويؤسس لنظرة متوازنة للماضي، تتجنب الوقوع في فَخْ “التجميل” أو “التقبيح”، وفي ذات الوقت تُجنّبَه صرفَه إلى التشبّه بالتمثّلات المطبوعة بصيغ جاهزة.

البُعد اللغوي والفكري للطبري

لغة الطبري وإن بدت للوهلة الأولى جافة، فهي تنضح بحرص مؤرخ على توثيق التفاصيل، والاستناد لألفاظ المصادر المشهورة، فعلى سبيل المثال، حين يعرض قوله تعالى: (اذكروا نعمة الله عليكم)، لا يكتفي بالعرض المتكرر بل يستظهر حوله جمع الروايات وتقديم الأسباب. 

هذا الأسلوب يمنح القارئ المعاصر نافذة لفهم الطبيعة النحوية والبلاغية في تراكيب الآيات، ويجعله يعي طعم اللغة الأصلية، بعيدًا عن الترجمة الفكرية المجردة.

ثانيًا: ابن حزم

الشافعي في منهجه، والحنبلي في حزم القول، يُدرِك ابن حزم أن الاجتهاد ليس ترخيصًا للترف الفكري، بل هو مسؤولية مرهونة بالوثوق بالرواية، وإعمال العقل ضمن ضوابط. 

في كتابه “المُحلى” و”المستصفى” وكتبه الفقهية كافة، يَجمع بين التفكيك والموازنة، بين التدقيق في السند وتنقية الفكرة. 

هذا الأسلوب التأصيلي لا يزال مرشدًا للباحث المعاصر المتأمّل في طبيعة النصوص الشرعية، إذ يوفّر له قوّة مناعية ضد التأثيرات الخارجة عن السياق، ويؤهّله للتمييز بين المستند والمشهور، بين الصحيح والمقبول، وبين ما يُضاف إلى التراث.

البُعد اللغوي والفكري لابن حزم

من أبرز ما يُميز ابن حزم في “المحلى” على سبيل المثال هو تفصيلُه لنقائص الرواة وعلل الأحاديث، وتحديدُه للموثوق منها لا سيما إذا اقتضت مسألة فقهية. 

هذا الأسلوب لم يكُن شعارًا نظرًا، بل كان فعلًا عمليًا، يُستخدم لتبيان الحدود بين المعرفة اليقينية والمعرفة الظنية. 

ومن هذا المنطلق يكتسب القارئ المعاصر قدرة نقدية لا تُستهان بها، بل يُولَّد لديه شعور بأن البحث العميق يبدأ بالتساؤل الواثق، لا بالتلقين السطحي.

ثالثًا: الذهبي

إذا كانت المصادر السابقة متخصصة تاريخية أو فقهية أو تراجميه، فالذهبي حضّر مناهج مؤسسية مقنّنة للعلم والأدب.

في “تذكرة الحفاظ”، و”سير أعلام النبلاء”، و”التاريخ الكبير”، تمثّل لوحة متكاملة من كتابة تراجم العلماء ومواقفهم، وتقييماتهم الشخصية والرأي في عباراتهم، وأحيانًا في مقايس صرفتهم وسلوكهم. 

الأثر اللغوي للذهبي

بالنسبة للقارئ اليوم فالعودة للذهبي تُتيح نافذة على سير العظماء وفق منهج تقييم نقدي، فحين يقرأ “تذكرة الحفاظ”، يُلمّ بحجم العناصر التي تُشكِّل مصدر علم الحديث، ويضع كل راوٍ ضمن خريطته، تتغير معالمها كُلما اختبر الشخصيات بعناصر موثوقة مثل العدل والضبط. 

هذا يبني رؤية وعيُّه لتاريخ العلم، بعيدًا عن التقديس الأعمى، ويدفع للاعتبار بأثر العلماء وتجاربهم.

العلاقة المعاصرة بمصادرنا الأولى

في زمن وسائل التواصل والتصنيفات السريعة، يصبح التراث جزءًا من نافذة للحوار، ولمراجعة مسلماتنا، فكيف نتفاعل معه بوعي؟

  • التمييز المعرفي: يحثّ ناظم الرحلة على استنهاض حِس التمييز بين النص التاريخي والنص العقلي، بين السيرة كما حدثت والصياغة كما بثّها المؤرخ.
  • الفهم ضمن السياق: لا يُقبل النقل النصي بمفرده، بل يتطلب الاستجلاء السياقي، بمعرفة البيئة، والأحداث المجاورة، والمصالح المتداخلة.
  • التشكيك البنّاء: ليس كل ما يُروى يُؤخذ دون تحقق، فالذهبي ذاته لم يخفِ رؤيته النقدية، وعزمَه على مراجعة الروايات المنقولة.
  • التوظيف في الحاضر: حين نستحضر كتابات هؤلاء العلماء، فإننا نسعى لتطبيق مبادئهم على واقعنا في الفكر، والتأويل، والاجتهاد، وفهم تفاصيل التحوّلات الاجتماعية.

كنوز الطبري بين يديك من مكتبة دار الزمان

لم يكن الطبري مفسرًا فقط، بل كان مؤرخًا ومفكرًا ومحققًا للمعنى على هيئة كلمات، غير أن مشروعه العلمي، في تفسير القرآن، كان متشعبًا متينًا، يضجُّ بالسند واللغة والاختلاف.

واليوم جمعت مكتبة دار الزمان عِصارة ذلك الإرث الجليل في مختصرات علمية مُحكَّمة، تُقرِّب المعنى وتُبقي الأثر، في ثلاثة مجلدات جامعة مانعة للطبري، بأسلوب معاصر يُنير الطريق دون أن يقطع صِلَة القارئ بالأصل.

ليست تلك المختصرات اجتزاءً أو تقليصًا، بل تصفية مُحكّمة للنص، تُبقي على ما يُضيء، وتُغني القارئ عمّا يُثقل، فتجعل من الطبري قريبًا من دارس اليوم، ومُلهمًا للباحث في زمنٍ تسارعت فيه المعارف وتكاثرت فيه الشروح.

نهايةً.. من الطبري إلى الذهبي: مصادرنا الأولى كما يراها القارئ المعاصر، إن الطبري والذهبي وابن حزم هم نوافذ نطلّ منها على وعينا، وسبل نفهم بها أنفسنا، والقارئ المعاصر لا يُطالب بعبادة النص، بل بفهمه، وتفكيكه، واستنطاقه، ليعيد تشكيل علاقة ناضجة مع تراثٍ لا يزال يهمس في تفاصيل الحاضر.

اقرأ أيضًا: