منذ 1400 عامًا تم وضع اللبنات الأولى لأعرق وأقدس الأماكن على وجه الأرض وهو المسجد النبوي الشريف على أرض المدينة المنورة الشريفة، حيث لم يكن مجرد بناء من طين وتجريد بل كان تجسيدًا لروح وبداية مركز جديدًا ينشر نور الإسلام في الآفاق، فلم يكن المسجد النبوي مجرد مسجدًا عاديًا بل يحمل الكثير من الرسائل ولكن ترجع مكانته العظيمة في أن النبي صلى الله عليه وسلم شارك في البناء بنفسه عالمًا بيده الشريفة، موجهًا الأمة نحو هدف أسمى من مجرد بناء مبنى، فقد كان بناء المسجد النبوي درسَا من دروس التاريخ الإسلامي التي شهدت عظمة رسالة الإسلام.
The story of the construction of the Prophet's Mosque: From migration to construction
كان أول ما فكر به الرسول الكريم حين هاجر إلى المدينة المنورة هو بناء المسجد النبوي وذلك لأن الصلاة هي العماد الذي يرتكز عليه الدين الإسلامي وكل شيء في حياة المسلم يرتبط بالصلاة وكانت خطوة بناء المسجد هي أولى الدعائم الأساسية لإنشاء الدولة الإسلامية حيث إنها كانت في مهدها فبعد أعوام من الخوف والاضطراب شعر المسلمون بالأمن وبعد الحرمان من أداء الشعائر حان وقت الجهر بها
وقد كان أول ما قام به النبي في الأسبوع الأول بالمدينة هو اختيار مكان المسجد كما جاء في الحديث الشريف “كانَ يُحِبُّ أنْ يُصَلِّيَ حَيْثُ أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، ويُصَلِّي في مَرَابِضِ الغَنَمِ، وأنَّهُ أمَرَ ببِنَاءِ المَسْجِدِ، فأرْسَلَ إلى مَلَإٍ مِن بَنِي النَّجَّارِ فَقالَ: يا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بحَائِطِكُمْ هذا، قالوا: لا واللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إلَّا إلى اللَّهِ، فَقالَ أنَسٌ: فَكانَ فيه ما أقُولُ لَكُمْ قُبُورُ المُشْرِكِينَ، وفيهِ خَرِبٌ وفيهِ نَخْلٌ، فأمَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقُبُورِ المُشْرِكِينَ، فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بالخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ وجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الحِجَارَةَ، وجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وهُمْ يَرْتَجِزُونَ والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ معهُمْ، وهو يقولُ: اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إلَّا خَيْرُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ والمُهَاجِرَهْ.” الراوي أنس ابن مالك – صحيح البخاري.
وتم بالبناء بعد 12 يوم من العمل الجاد بين صفوف المؤمنين في أجواء من الحب والإخاء وقد تمكن الصحابة رضوان الله عليهم من رفع الجدران بجذوع النخل وتظليل السقف بالجريد وسعف النخيل وبعدها أمر الهادي البشير ببناء منزل له وحجرا لنسائه بحيث تكون في الشمال والشرق والجنوب ومن هنا كانت نقطة انطلاقة جديدة في البعثة المحمدية حيث إن الحلم العظيم للمؤمنين بإيجاد موطن أمن للاجتماع للعبادة وذكر المولى قد تحقق وصار واقعا يعايشونه يوما بعد يوم.
وظائف المسجد النبوي في عهد النبي ﷺ: مركز للعبادة والتعليم والإدارة
كل مسلم يعي جيدًا أن المسجد النبوي لم يكن فقط محرابًا للتعبد وذكر لله رغم أن هذا هو الغاية الأساسية لأي مسجد ولكنه كذلك كان له غايات أخرى شديدة الأهمية التأثير في روح الصحابة والتابعين ونتعرفها فيما يلي:
1- مركز لتعليم القراءة والكتابة
من الطبيعي أن الدين الذي كانت أول رسالته أقرا أن يولي للتعليم أهمية كبيرة ويشجع عليه بكافة السبل فكانت الهجرة هي الشعلة التي أوقدت نور العلم بين المسلمين فبدأت الحركة العملية في المدينة بالتبلور والتأجج إذ اجتمع الناس بعد بناء المسجد النبوي لمدارسة القرآن وتدبر آياته ففي حديث شريف.
“أَفلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إلى المَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِن كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ له مِن نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ له مِن ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ له مِن أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإبِلِ.” الراوي : عقبة بن عامر -صحيح مسلم.
2- محل للحكم والقضاء
لم يكن منبر المسجد النبوي يستعمل لخطبة الجمعة وتنبيه المؤمنين بالآيات والوحي بل كان الرسول يجلس في نفس الرقعة للنظر في قضايا المسلمين وإدارة شئون الدولة وكذلك إصدار الأحكام والقضاء فكان مكانًا لحل الخلافات الزوجية والنزاعات على الأملاك وكذلك الخلافات بين الدائن والمدين.
3- موقع لإدارة الدولة والسياسة
كان خاتم الأنبياء بعد بناء المسجد النبوي يجعله مقر لعقد المؤتمرات وجلسات المشاورة مع الصحابة وكذلك كان يفكر به في الأمور والقرارات الخاصة بالغزوات والمعاهدات ففي الروضة الشريفة كانت هناك مجموعة سواري “أسطوانة الوفود” حيث كان يتم استقبال الوفود خاصة في العام التاسع و موقعها الجانب الشمالي الغربي من حجرة أم المؤمنين عائشة.
4- منطلق لقوافل الجهاد
مباشرة بعد بناء المسجد النبوي كان هذا المكان هو البؤرة التي خرجت منها الجيوش الإسلامية على مر العصور حتى بعد العهد النبوي، فقد اجتمع النبي بالصحابة للتخطيط والاستعداد قبل الخروج للجهاد في الغزوات كغزوة بدر وأحد والخندق.
5. مأوى للفقراء من أهل الصفّة
كانت هناك بعد المرحلة الأولى من بناء المسجد النبوي رقعة خاصة بأهل الصفة وكانت للفقراء والمحتاجين لأن المسلمين كالجسد الواحد يتعاضضون كما أمر الحبيب ويعين القوي الضعيف ويعطي الغني الفقير بكل حب وإخاء.
أثر المسجد النبوي في الحياة الروحية للمسلمين
الأثر الخاص بالمسجد النبوي في نفس كل مسلم قائم إلى اليوم فيكفي للمرء أن يمر به ليشعر بكل شيء مر به الهادي البشير لإيصال الدعوة كاملة وكيف استنزفه الكفار والمشركين رغم ذلك لم يغير رأيه ولم يفقد صبره وعزيمته على إتمام الرسالة وذلك لأن المسجد لم يكن يوما قطعة ارض بل منبع بالقصص الملهمة والمحركة لنفس كل مسلم.
فحتى جذع الشجر بكى لفراق النبي فكيف لا يبكي المسلم ويتأثر حين يمر بقبره وحين يتذكر خطبته الأخيرة وهو يودعهم ويذكرهم بإتمام الرسالة ويوصيهم بعدم الرجوع لما كانوا عليه من بعده وفي ضوء ذلك لنتعرف على أثر المسجد النبوي في حياة المسلم.
- تقوية الروابط بين المسلمين: إن المسجد النبوي كان الدليل الأقوى على غياب الطبقية والعدل في حياة المسلمين إذ إنهم يجتمعون من كل الألوان والخامات به يقفون سويا كأسنان المشط فيشعرون بالانتماء للإله الواحد الخافض الرافع.
- التذكير بالعمل الصالح والالتزام: في المسجد يُخلق بين المسلمين نوع من الإخاء الذي يجبر كل الأطراف على توفير بيئة أمنة للنصح والإرشاد فحين دخل عمر ابن الخطاب على العابد في المسجد والذي لا يخرج منه قدم له التوجيه والإرشاد في عبارة بسيطة دون تقريع إذ قاله له أخيك أعبد منك لحثه على الموازنة بين العمل والعبادة.
- الاجتماع للعبادة في حلقات الذكر : من أقوى سبل التربية الروحية في حياة المسلمين حين يجتمعون لغاية واحدة وهي العبادة والتقرب من الله فيساهم ذلك في تحسين صلابتهم النفسية وبث حب الله ورسوله في نفوسهم من خلال مشاركة المواعظ والعلم الشرعي والقيم الأخلاقية الفاضلة.
- تهذيب النفس وتزكيتها: حتى جذع الشجر بكى لفراق النبي فكيف لا يبكي المسلم ويتأثر حين يمر بقبره وحين يتذكر خطبته الأخيرة وهو يودعهم ويذكرهم بإتمام الرسالة ويوصيهم بعدم الرجوع لما كانوا عليه من بعده فالتواجد في هذا المكان ينقلك بالزمن لعهد النبي فيزرع في القلب الطمأنينة ويصفي النفس من كل الأحقاد والضغائن ففي هذا المسجد ترى الدنيا من زاوية مغايرة فتشعر بمراقبة الله في السر والعلن وتعرف أن العاقبة بالخواتيم.
بالنهاية كان بناء المسجد النبوي بصمة من بصمات القوة والعزيمة والوحدة التي بدأت من مجرد لبنات بسيطة إلى وسيلة إلهام لجيل يلو الجيل، لتحقيق أهداف الإسلام السامية شاهدة على عظمة حضارة بنيت على أسس من العدل والعلم.
Read more:
