رحلة تدوين الحديث

ليس ثمة أمة على مرّ التاريخ بلغت في عنايتها بكلمات نبيّها ما بلغته الأمة الإسلامية في صونها لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى غدا الحديث الشريف منظومة محكمة من الرواية والنقل، مسوَّرة بقواعد صارمة من التوثيق والتمحيص، ومسنودة برجال شُهد لهم بالصدق والعدالة والحفظ، وفي السطور التالية سنُعرفك رحلة تدوين الحديث تفصيلًا.

رحلة تدوين الحديث

في عمق التاريخ الإسلامي، وعلى امتداد قرون متتالية، تشكّل الحديث النبوي الشريف ليكون بصفته المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، فهو كنزًا معرفيًا وروحيًا استثنائيًا. 

وقد مرّت عملية جمعُه وتدوينه برحلة عسيرة، محفوفة بالتحديات والمنعطفات، عبّرت عن مدى العناية الفائقة التي أولتها الأمة الإسلامية لحفظ ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، صونًا له من التزوير، وتنزيهًا لسُنة المصطفى عن كل شائبة، وفيما يلي نذكر رحلة تدوين الحديث:

أولًا: المرحلة الشفوية

في العصر النبوي، لم يكن الحديث يُدوّن على نطاق واسع، بل غلبت الرواية الشفوية على نقل السنة؛ لأسباب متعددة منها ما هو مرتبط بطبيعة المجتمع العربي القائم على الحفظ والتلقين، والحذر من اختلاط الحديث بالقرآن الكريم أثناء جمعُه في مصحف واحد.

لكن هذا لم يكُن يعني إهمال الكتابة مطلقًا، فقد ورد أن بعض الصحابة كعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، كانوا يكتبون ما يسمعونه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإذنٍ صريح منه.

حتى سُمّي ديوان عبد الله بن عمرو بالصحيفة الصادقة، وكانت من أوائل المدوّنات الحديثية، وكان لأبي هريرة، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وسواهم، نشاطٌ في التقييد الجزئي لبعض الأحاديث أيضًا.

ومع انتشار الإسلام واتساع رقعته، اتسع نطاق رواية الحديث، فظهرت حلقات تعليمية تُلقى فيها الأحاديث، ويتلقاها الطلبة مشافهة، ويُقرّون بصحتها من شيوخهم، في تقليد علمي مُحكم.

ثانيًا: مرحلة التابعين

ما إن انتقل جيل الصحابة، حتى تسلّمت أمانة الرواية طائفة من التابعين الذين عايشوا الصحابة وتلقوا عنهم، وكان هذا الجيل أول من واجه تحديات جدّية، على رأسها ظهور الكذب على لسان النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأغراض سياسية أو مذهبية أو طائفية. 

هنا تبلورت ملامح أولى لعلم “الجرح والتعديل”؛ حيث بدء المحدثون يختبرون عدالة الرواة، ويُحاكمون نصوص الأحاديث، ويضبطون مواقيت السماع، ومجالس التحديث، وطبقات الرواة.

وفي هذا السياق ظهرت مصطلحات مثل “الثقة”، و”الضعيف”، و”المنقطع”، و”المرسل”، و”المعضل”، وهي أساسات علم مصطلح الحديث.

ثالثًا: بداية التدوين الرسمي 

مع مطلع القرن الثاني الهجري، أخذت معالم التدوين الرسمي تتبلور؛ فقد أصدر الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز توجيهًا تاريخيًا بجمع الحديث وتدوينه، خشية ضياع السنة بوفاة العلماء.

فأرسل إلى عامله في المدينة أبا بكر بن حزم، يأمره بالكتابة خوفًا من ذهاب العلماء، وكان هذا القرار إيذانًا ببداية التدوين المنهجي للسنة، وإن لم يكن على شكل مصنفات مرتبة، بل أقرب إلى المجموعات الحديثية. 

وقد شارك في هذه المرحلة عدد من كبار التابعين وتابعي التابعين، أبرزهم ابن شهاب الزهري، الذي كان من أوائل من دوّن الحديث بأمر رسمي، واعتُبر رائدًا في هذا الباب.

رابعًا: عصر المصنفات الكبرى

ابتداءً من منتصف القرن الثاني الهجري، بلغ علم الحديث أوج نضوجه في رحلة تدوين الحديث، وأخذت المصنفات الحديثية تظهر تباعًا، على هيئة “الموطآت”، و”المسانيد”، و”السنن”، و”الجامعات”. 

وكان لكل صنف من هذه الكتب منهجيته وغاياته، وقد كان الإمام مالك بن أنس من أوائل من ألّف كتابًا جامعًا في الحديث والفقه، وهو “الموطأ”، الذي تميّز بترتيبه الموضوعي، وجمعه بين الحديث والرأي، وكان نموذجًا يُحتذى به في التدوين العلمي.

ثم جاء الإمام أحمد بن حنبل بمصنفه العظيم “المسند”، الذي رتّبه على أسماء الصحابة، وضمّ أكثر من ثلاثين ألف حديث، فبات من أوسع كتب الحديث انتشارًا وتداولًا.

ومع القرن الثالث الهجري، بزغ البخاري ومسلم، صاحبا أصحّ كتابين بعد كتاب الله، وهما: “الجامع الصحيح” للإمام البخاري، و”صحيح مسلم”.

وقد بلغ التمحيص في هذين الكتابين ذروة الصرامة المنهجية، فاشترط البخاري اللقاء والمعاصرة والثقة التامة، فكان كتابه مثالً في الضبط والتحرّي، أما مسلم فاهتم أكثر بسلامة الإسناد واتصاله، وكان كتابه أكثر ترتيبًا وأقل تكرارًا.

خامسًا: مرحلة المدارس الحديثية

مع ازدهار التدوين بدأت تتمايز المدارس الحديثية بحسب الأقاليم، فكانت مدرسة الحجاز أكثر ميلًا للتوثيق العملي للنصوص، وحفظ أقوال الصحابة، والميل إلى الاحتياط، كما تجلّى في منهج الإمام مالك. 

بينما تميزت مدرسة العراق بكثرة الرواية، وانفتاحها على اختلافات الرواة، مما دفع علماءها إلى تشديد قواعد الجرح والتعديل كما فعل يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني.

أما مدرسة الشام، فقد برزت في رصد المرويات السياسية، والنقد الزمني للسند، وكان لها دور فاعل في مقاومة الوضع السياسي المصطنع في الحديث، وكانت خراسان ومرو وسمرقند مراكز حديثية نشطة، أثمرت أعلامًا مثل البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

سادسًا: علم الرجال ومصطلح الحديث

ما يثير الإعجاب في رحلة تدوين الحديث هذه الرحلة العلمية العريقة، والتي تولّد عنها من علوم فرعية رصينة، تهدف لصيانة السنة من الانتحال والتزوير.

فظهر علم الرجال الذي اهتمّ بسِيَر الرواة، وعدالتهم، وضبطهم، وأصول رحلاتهم، ومجالس علمهم، وانضباطهم الزمني في الرواية.

كما نشأ علم مصطلح الحديث، الذي حددَ بدقّة ما يُقبل وما يُردّ من الأحاديث، وفق معايير صارمة في الاتصال والانقطاع، وعدالة الرواة، وتعارض المتون، وغير ذلك. 

وقد دوّن علماء الحديث مئات الكتب في هذا الميدان، مثل مقدمة ابن الصلاح، وتدريب الراوي للسيوطي، ونزهة النظر لابن حجر.

مكانة السنة في الدين الإسلامي

لم يكن تدوين الحديث مجرد نشاط علمي أرشيفي، بل تعبيرًا عن علاقة وجدانية وروحية بالغة العمق بين الأمة ونبيها الكريم، ولقد استشعر المسلمون أن السنة هي النور المُتمم للقرآن، والبيان التطبيقي لأحكامه، والمجسّد العملي لقيمه.

ولهذا فحفظ الحديث لم يكُن مهمة العلماء فحسب، بل بات شرفًا للأمة كلها، تُسند به صدور الرجال، وتُشيّد به حصون الفقه، وتُستلهم منه المعاني التربوية، والأخلاقية، والاجتماعية.

مكتبة دار الزمان للتعمق في رحلة تدوين الحديث

تُجسد مكتبة دار الزمان محطةً محورية لكل من يسعى إلى فهم العمق التاريخي والعلمي لمسيرة تدوين الحديث النبوي الشريف؛ فهي لا تقتصر على عرض كتب الحديث المعروفة، بل تحتوي على مؤلفات تم تدوينها في مراحل دقيقة من تطور علم الحديث.

بدءً من الصحف الأولى التي جمع فيها الصحابة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وصولًا إلى المدونات الكبرى التي أرست قواعد الجرح والتعديل، والتخريج، والمسانيد.

لذا فالمكتبة مرجعًا شاملًا يوثّق رحلة العلم، ويبرز الجهود الجبارة التي بُذلت لحفظ السنة ونقلها بأدق الأساليب العلمية.

إن التأمل في رحلة تدوين الحديث الشريف يتجلى فيه عبقرية الأمة الإسلامية في تحويل الوحي لمنهج علمي، لا يعرف المجاملة، ولا يقبل الدعوى من غير بيّنة، ولقد كان صرح الحديث النبوي حجر الزاوية في تشييد العقلية الإسلامية المتوازنة.

اقرأ أيضًا: